لا تزال العقلية
الدوغمائية تتحكم في مسارات الحياة المختلفة في المجتمعات العربية، وتوصف هذه
العقلية بأنها عقلية جامدة أو ثابتة، وتحيط نفسها عادة بسياج معتقداتي خاص بها،
يمنعها من إعادة النظر بما هو داخل هذا السياج المنيع الذي تحتمي به. الكاتب محمد
البدارين، وهو خبير في التنمية المحلية، يعلق على مفهوم العقلية الدوغمائية
ومحدداتها والخيارات التي ينبغي على المجتمع الأخذ بها لمصلحة عناصر التقدم
والحداثة.
تعمل العقلية الدوغمائية (Dogmatic Mind) بصورة روتينية مستمرة وفق نظام التقليد والامتثال والتكرار
والاجترار، فينتج عنها تفكير تكراري اجتراري رتيب معروفة نتائجه مسبقاً، بما لا
يستدعي أية توقعات بإمكان حدوث أي تغيير أو تبديل. وكنتيجة طبيعية لمثل هذا
التفكير فإن العقل يمتنع تلقائياً عن الاشتغال في مساحات أخرى تقع خارج إطار عمله
الروتيني الذي تحدد سلفاً، وتكرَّس كمجال محدود ومألوف ومريح للعمليات التفكيرية،
ويخضع الشخص في هذا الأسر الفكري الاختياري لمنطق نمطي محدد، غير قابل لإجراء
عمليات تدقيق أو مراجعة لبياناته وأحكامه، التي تتحوَّل بمرور الزمن إلى ما يشبه
مقدسات خاصة، لا يمكن مناقشتها أو اختبارها، ومن الطبيعي أن ينعكس هذا التفكير
المقيد على سلوك الفرد وعمله وعلاقاته ونشاطاته.
والدوغمائية
حسب مكتشفها العالم الأمريكي (ميلتون روكش) تعني عدم قدرة الشخص على تغيير جهازه
الفكري عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك، أي إنها لا تسمح لصاحبها بإجراء أي
تغيير أو تعديل أو تبديل في أفكاره حتى عندما تكون هناك أسباب تستدعي إجراء مثل
هذه المراجعة، فالعقل الدوغمائي يتجاهل الحقائق وينكرها إلا إذا جاءت في خدمة
أفكاره المسبقة وأحكامه المقررة سلفاً أو متوافقة معها أو تؤيدها وتدعمها، وهو
يحذف أو يرفض أية حقائق قد تتسبب بتحريك قناعاته السابقة أو زحزحتها، فصاحب هذا
العقل يعتقد أنه يملك اليقين المطلق وأن ما لديه من أحكام مسبقة هي أحكام صحيحة
ونهائية ولا داعي لعرضها على النقاش أو الفحص، لذلك تتسع مساحة ما يسمى اللامفكر
فيه في العقل الدوغمائي، وهي مساحة غير معروفة الحدود بالنسبة له لأنها خارج نطاق
عملياته التفكيرية، فكل ما هو خارج الطوق الدوغمائي، يقع خارج نطاق عمل هذا العقل
ولا داعي للتفكير فيه أو هو غير موجود بالنسبة له، فهو عقل مكتف بما لديه ومنشغل
بتكريسه وتثبيته وحمايته، وهنا ينشأ التعصب والتطرف وعمى البصيرة، بشكل يؤدي
للغطرسة والتكبر والانغلاق وسد الطرق أمام الأفكار الجديدة التي يمكن أن تنتج عن
الحركة المستمرة في واقع الحياة الفعلي.
وفي ظل سيادة
هذا العقل المحاصر والمنغلق تنتعش (المقولبات) في حياة المجتمع، بمعناها الكاسح
القاطع، وتصدر الأحكام سلفاً ضد الاتجاهات والآراء الأخرى أو ضد فئات أخرى من
الناس، وتطلق الأوصاف وتتشكل الصور الذهنية بسرعة عن الأشخاص الجدد والمواقف
الجديدة، حيث يقوم العقل الدوغمائي بتصنيفها والحكم عليها تبعاً لمحتوياته السابقة
وليس تبعاً لمحتوياتها هي، ويستعمل لهذه الغاية أحكاماً تبسيطية تعميمية لا تراعي
أية فروقات بين الحالات المختلفة، وعادة ما تفتقر هذه الأحكام للروح العلمية
والموضوعية لأنها تصدر بالجملة وبشكل مباشر.
والمقولبات
هي عبارة عن أفكار مجهَّزة مسبقاً بقوالب موحَّدة كقوالب المعامل التي تنتج سلعاً
موحَّدة، حيث تخرج الأفكار والأحكام كالسلع المتشابهة، وفق قياسات موحدة وثابتة
ومقررة قبل عملية استخراج الفكرة، ويتم استعمال هذه الأفكار مثل الألبسة الجاهزة،
للحكم على الأشخاص أو المشكلات أو الاتجاهات، قبل التعرف والتدقيق أو البحث
والتشخيص ودون الاعتراف بالقياسات الجديدة أو المختلفة.
وتحتل
المقولبات مساحات واسعة في ثقافات الأفراد خصوصاً في المجتمعات غير المتقدمة،
وتقولب علاقاتهم واتصالاتهم وتفاعلاتهم بشكل لا يسمح بعمليات التخصيب والتجديد
التي تتيحها طبيعة الحياة المتجددة والمملؤة بالاختلافات، وكلما تغلغلت المقولبات
في حياة المجتمع حشر الناس في معازل فكرية واجتماعية وتشوشت الاتصالات فيما بينهم
أو تعطلت، حيث ينحبس العقل في قالب سميك يحول بينه وبين التحرك وفقاً لما تتطلبه
عمليات الحياة المتنوعة والمتعددة والمختلفة، ويؤدي ذلك لإحجام العقل عن توسيع
مجال تفكيره ونشاطه والتوقف عند حدوده الروتينية الرتيبة غير القابلة للتوسع، ويظل
يتغذى على الأفكار المقولبة والأحكام الاستباقية.
والحكم
الاستباقي هو بطبيعته حكم غير علمي وغير موضوعي ويعبِّر عن معرفة تعميمية مسبقة
ورأي أحادي ضيق، ولا يخضع لأي تفسير علمي، ويتجاهل الوقائع والمواقف التي تتجدد
باستمرار، وكثيراً ما يؤدي الحكم المسبق إلى إلغاء الوقائع المعاكسة له أو النتائج
الجديدة أو يقلل من أهميتها، لضمان استمرار سيطرته وفاعليته، وهو لا يتورع عن
إنكار الحقيقة أو تشويهها أو تجزئتها لإرغامها على التوافق معه بدلاً من أن يتوافق
هو معها.
وقد عانت
المجتمعات عبر الزمن الطويل من قسوة الأحكام المسبقة التي كانت دائماً تترافق مع
تمجيد مفرط للذات والتقليل من شأن الآخر، وهذا الآخر قد يكون شخصاً أو فئة أو
جماعة أو قد يكون صاحب المنزل المجاور، فالذات المستعلية المحكومة بالدوغمائية، تقدس
نفسها بنفسها، ولا تقر بأن الآخر له حق الاختلاف.
وإذا كنا في
المجتمعات العربية لسنا وحدنا دون غيرنا الذين نعاني من طغيان الدوغمــــــــــا
والمقولبات والأحكام الاستباقية في حياتنا، إلا أننا نقدِّم كمية هائلة من الأمثلة
الحيّة على سيادة هذا التفكير غير العلمي وغير الموضوعي وغير المنصف في مختلف
مجالات حياتنا وخصوصاً في المجال الاجتماعي، ويكون الأمر أكثر خطورة عندما يكون
هذا الفكر متغلغلاً في المفاصل المهمة في المجتمع، حيث تشكل هذه المفاصل سداً
منيعاً في مواجهة عناصر التغيير والتصحيح والإضافة والتجديد، وتخنق المبادرات الجديدة
وتمنع انبثاق الطاقات الكامنة التي يحبسها أصحابها خشية الاصطدام مع العقل السائد.
وإذا كانت
هذه المسألة قد حسمت منذ زمن بعيد في المجتمعات المتقدمة لمصلحة العقل العلمي
الموضوعي الحديث، فإنها ما زالت غير محسومة عندنا، فما نراه واقعياً أن العقل
الدوغمائي المضاد للتجديد لا يزال مهيمناً على حياتنا، بل إن كثيراً من أصحاب
الفكر التحديثي يضطرون للتخلي عن حداثتهم ويضعون أنفسهم في خدمة العقل المسيطر تحت
إغراء المطامع المادية، أو خشية التعرض للسخرية أو النبذ أو سوء الفهم.
وما لم نحسم
خياراتنا لمصلحة عناصر التقدم والحداثة بمعطياتها الجوهرية، وليس الشكلية، فإن
مجتمعاتنا ستظل تعتاش على الأحكام المسبقة والثقافة الحشوية المتوقفة أو المتجمدة،
وسنظل في حالة انفصال عن المعطيات الحديثة للفكر المتقدم في العالم، وينبغي
التنبيه هنا أن عمليات التحديث المادي لا تغني أبداً عن عمليات التحديث الفكري،
فالحداثة لا تتحقق ولن تتحقق حتى لو استوردنا كل إبداعاتها المادية، لأنها في
الأصل مسألة فكرية.
ولن تغرنا
أعداد الخريجين من الجامعات الأجنبية الذين يزج بهم في الكثير من مراكز صنع القرار
في البلدان العربية، فهؤلاء الخريجون يتجاهلون عادة ما تعلموه في الخارج ويستسهلون
الانضمام للثقافة السائدة في مجتمعاتهم أصلاً، ولذلك فإنه لا قيمة لهم إلا إذا
أثبتوا ميدانياً حداثة تفكيرهم وأساليب عملهم، وجدية التزامهم بالموضوعية والنهج
العلمي وأحدثوا التأثير المأمول منهم في مجتمعاتهم، فالتقدم والحداثة والتحضر، ليست
مسائل شكلية مظهرية ادعائية، بل هي عمليات حقيقية تجري في العمق، ويجب أن تصيب طرق
التفكير وأنماط السلوك وأساليب العمل وعلاقات الأفراد في المجتمع، كما إن التحضر
الذي لا يصيب الإنسان في داخله يظل تحضراً شكلياً مستعاراً ومثيراً للسخرية.
إننا نريد إحراز التقدم في
سائر مجالات الحياة العربية، ولا يجوز أن نظل نتشهى ما وصل إليه الآخرون ونتبادل أحاديث الإعجاب عنهم بقصد الاندهاش والتسلية، والتقدم
الذي نريده هو تقدم حقيقي يصيب حياتنا كلها، وأول ما يجب أن يصيب هذا
التقدم مجالات التعليم والتدريب والإعلام ومصادر التوجيه والتأثير لما لها
من أهمية في حياة مجتمعاتنا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق