ـ 1 ـ
علاء الدين والمارد الضخم
بذل والداه قصارى جهدهما لإنقاذه من آخر رسوب مسموح به في مدرسته. تسلحا بالصبر، وبالرفق في معاملته كما نصحهما طبيبه النفسي لإعداده لامتحان الثلاثية الثانية من الصف الثاني ابتدائي. في الصباح، أخذته أمه برفق وراحت تدربه على كتابة اسمه بمفرده. حتى اسمه صار علاء عاجزا على كتابته بدون أخطاء. بعد وقت طويل، كان يغيب فيه علاء كثيرا نجح في الأخير في كتابته وبخط سيء للغاية. يبدو كأنه كتبه بأصابع رجله. ويصعب التمييز بين حروف العين والهمزة واللام والدال والنون... ومع ذلك شجعته أمه وانتقلت به إلى درس التاريخ. فراحت تشرحه له ببساطة كأنها تشرحه لرضيع. بعد ساعتين من الشرح، بدا الانزعاج على الأم. كلما أيقظته من شروده ونبهته إلى الدرس الذي بين يديه عاد يسرح في البعيد من جديد. وفي الأخير ضاقت ذرعا منه. فصرخت في وجهه وخرجت تجهش بالبكاء.
في المساء، حل علاء الدين بمكتب والده يتأبط كتاب الرياضيات. فخاض معه أبوه معركة أخرى حول الزاوية القائمة. كانت ثقة والده كبيرة في أن يجعل علاء الدين قادرا على الانتصار على عجزه الذي احتار منه المعلمون والأطباء النفسانيون. بعد ساعة من الشرح والإيضاح لم يفلح علاء الدين في رسم الزاوية وتمييزها عن بقية الأشكال الهندسية الأخرى. فغضب أبوه وهوى على رأس علاء الدين بالمسطرة التي انقسمت إلى شطرين ثم رماه بكتابه ومقلمته وأوراقه...
لم علاء الدين أدواته وخرج يخنق دموعه. أغلق على نفسه في غرفته واسترسل يبكي. تألم كثيرا لأنه لا يستطيع التركيز في دروسه ولا يقوى على إرضاء والديه وبلوغ المستوى الذي ينشدانه فيه كما كان من قبل. إلا أنه لم يستسلم للألم طويلا. قفز من فوق سريره، فجلس أمام حاسوبه. فتحه، أدخل قرصا مدمجا يتضمن الألعاب الإلكترونية التي يعشقها. تحسس أثر الضربة على رأسه. أوجعته فدمعت عيناه وأسقط رأسه على لوحة المفاتيح مسترسلا يبكي، فإذا بمارد ضخم يخترق الشاشة !!..
ارتج علاء الدين وتراجع إلى الخلف مفزوعا يلهث ويهدئ روعة قلبه براحة يده. خاطبه المارد بصوت غليظ مرعب:
ـ أنا حمدون العجيب، أطلب ما تريد وأنا سأجيب.
انزوى علاء الدين في أقصى الزاوية يرتعد وينكمش على نفسه. ابتسم له المارد قائلا بصوت أغلظ من الأول:
ـ هيا أطلب ما تريد...
ثم أرسل حلقات من الضحك أصمت أذن علاء وكأن جبلا ضخما يتداعى بالقرب منه. فازدرد علاء ريقه وثقل لسانه في فمه ولم يستطع الرد. زلزله المارد بصوت أضخم من الأول:
ـ لك أربع طلبات كلها مستجابة. اليوم سأنفذ لك طلبا واحدا. وفي نفس المكان والزمان من كل شهر أنجز لك بقية طلباتك. هيا أطلب، أطلب، هيا..
ـ أريد أن أكون أشطر طفل في الوجود..
انطلق الطلب من فمه الصغير كالرصاصة، فضحك حمدون..هوه، هوه.. ومسح على رأس علاء ثم غاص في بحر الشاشة.
ظل علاء طول الليل ينصت إلى الضجيج في رأسه. ضجيج يشبه صوت تعبئة الأقراص المدمجة ولكنه أقوى قليلا. ظل ساعات مشدودا إلى ذلك الصوت حتى توقف فنام. في الصباح، استيقظ علاء من النوم مبكرا نشيطا مرحا يملأ الدار ضحكا وحركات. قوس ظهره في شكل أفقي مستقيم ورجلاه منتصبتان قائمتان وقال لوالده:" انظر، فهذه زاوية قائمة." فرح والده وقال له:" يبدو أنك استوعبت جيدا درس الأمس.."
ابتسم علاء ورد على أبيه فخورا بنفسه:" الزاوية القائمة درجتها 90 ، أما الزاوية المستقيمة فـ 180 درجة" ثم استرسل موضحا بعض النظريات في الرياضيات والفيزياء والكيمياء... اندهش والده، ولم يصدق أن الذي أمامه طفله علاء الدين. فدعا زوجته وقال لها مندهشا:" استمعي إليه. إن كل ما يرد على لسانه صحيح. لم أعد أصدق ما أسمعه من هذا الطفل العجيب." ثم نظر إلى أمه وراح يسرد عليها أحداثا تاريخية لم ترد في كتابه المدرسي، ولم تحدثه بشأنها يوما، بأسلوب تاريخي سلس يشد الانتباه. تبادلت مع زوجها نظرة استفهام وتعجب، وقالا له دفعة واحدة:" أنت محق في كل ما قلته، ولكن من أين لك بهذه المعلومات؟" فأشار لهما ضاحكا إلى الحاسوب ثم حمل محفظته وخرج.
دخل علاء الدين متأخرا إلى قسمه، فزاحم زملاءه في المقاعد الأمامية المخصصة للمتفوقين من التلاميذ. ضاقوا منه وأشاروا إليه مستهزئين.. "أنت كسول ومكانك في نهاية الفصل.." وأشار عليه المعلم بسبابته بأن يعود إلى مكانه في آخر مقعد في الفصل قائلا له:" حينما تحفظ دروسك وتستوعبها جيدا تعال واجلس في المقدمة. أما الآن فإذا كتبت تاريخ اليوم مضبوطا وبدون أخطاء فسوف أتنحى لك عن مكتبي." فانفجر التلاميذ ضاحكين.
نظر إليهم علاء بنفور. ثم قفز إلى السبورة وكتب عليها بخط واضح وجميل: الاثنين 1 أكتوبر 2019
اندهش المعلم وسكنت حركات التلاميذ وخمدت هتافاتهم الاستهزائية الساخرة. وعاد علاء وأخذ مكانه في المقعد الأول رغم معارضة زملائه. في حين ابتسم له معلمه ولم يأمره بمغادرته. فغضب التلاميذ ورموا علاء بالغباء. ثارت ثائرة علاء، وكادت أن تنشب معركة هوجاء بينه وبين زملائه لولا أن تدخل المعلم مقترحا إجراء مباراة للفصل بينهم. فانصاعوا مرحبين باقتراحه عدا علاء الدين الذي مضى بفتور شديد إلى السبورة مع رفاقه الست المتحمسين.
أعلن المعلم عن بداية المباراة قائلا:
ـ بماذا ترغب أن نبدأ يا علاء؟ بالخط؟ أم النقل؟ أم الإملاء؟...
قاطعه علاء قائلا وهو ينظر إلى زملائه الواقفين بجانبه:
ـ هذه مواد أراها جديرة بأطفال أمثال سعيد وسليم وسعاد وسلوى...
ـ وفيما يريد أمثالك أن يمتحن إذن؟ في الألعاب الإلكترونية؟
ـ في التكنولوجيا، في الفلسفة، في علم الفلك، في الفيزياء النووية، في الطب، في علم الذرة...
بينما ظل المعلم صامتا يحدق في وجه علاء مندهشا، وشوش التلاميذ فيما بينهم قائلين:" من يدعي نفسه هذا الكسول ؟"
فالتفت إليهم ورد عليهم رافعا رأسه في السماء:
ـ أنا انشتاين زماني، أنا سقراط ألألفية الثالثة، أنا ابن خلدون، أنا ابن رشد...
فانكمش الأطفال فاغرين أفواههم وانبهر المعلم من طلاقة لسان علاء الدين وفصاحة قوله، وما يجري على لسانه من نظريات ومعادلات لم يفهم منها غير القليل. فرشحه على الفور عضوا في برلمان الطفل بدل أخيه عز الدين. حينئذ تنفس علاء الصعداء وصافح زملاءه واحدا واحدا ثم ودعهم قائلا:
ـ سأبذل كل جهدي لتكونوا في الطليعة...
فدعوا له بالتوفيق ومضى علاء خارجا دون أن يلتفت وراءه.
علاء الدين في برلمان الطفل
أم علاء الدين مقر البرلمان بهندام أسود أنيق، وربطة عنق حمراء، ونظارة شفافة ذات إطار أسود جذاب، فأخذ مكانه في مقدمة المجلس. استمع عن مضض للمواضيع التي يتطرق إليها زملاؤه. كل واحد منهم يقوم حسب دوره ويسرد لائحة من حقوق وواجبات الطفل ثم يجلس مسرورا بما قدمه. كاد علاء يجن. بدا له ما يجري في أروقة البرلمان مجرد لعب ومرح. وأن بهذا الأسلوب لن ينقذوا الطفل من معاناته ولن يرقوا به إلى المستوى المنشود أبدا. فالتزم الصمت ينتظر ريثما يحل دوره لينتقد سير العمل المتبع في برلمان الطفل. وبينما هو ينتظر دوره، غاب علاء سارحا في مشاهد مؤلمة يراها يوميا ذهابا وإيابا في شوارع مدينته. أطفال متشردون يفترشون في الليل الأرصفة ويلتحفون السماء. بالنهار، هم أياد ممدودة إلى المارة. يقفز بعضهم على زجاج السيارات يمسحونها والأوساخ تكسوهم من قمة رؤوسهم إلى أخماص أقدامهم الحافية. وآخرون يسقطون على الأقدام يمسحون الأحذية. وآخرون يمددون أياديهم وألسنتهم تلهج بأدعية الرحمة للمارة وهم أشد المخلوقات حاجة إليها. وإذا ألهبهم الجوع وتجمدت أجسادهم بصقيع الشتاء أو اكتوت بلفيح شمس الصيف هبوا إلى صناديق القمامات. لم ينس علاء صورة زميله في القسم الذي توفي والده فغادر مدرسته ليمسك المطرقة والمسامير والمنشار. يشتغل طول النهار في ورشة النجارة عند جاره وصديق أبيه. ولما كانت سبابته أول ما جاء عليها منشاره الصغير طرده منها فغاب عن عيني علاء مدة طويلة. اليوم وحده، اعترض طريقه ليحييه ويهنئه بمنصب البرلماني. ففجع علاء ولم يصدق ما رآه فكاد يصرخ في وجهه فزعا:
ـ هل أنت ابن حمدون العجيب؟؟
وحينما عرفه من نبرات صوته استرسل علاء يبكي من حاله. لم يقدر علاء أن يستبين ملامحه بسبب زيوت السيارات والأتربة التي تراكمت على وجه زميله اليتيم... نادى رئيس البرلمان باسم علاء يدعوه لإلقاء كلمته. فقام إلى المنبر وظل برهة من الزمن يفكر مطأطئا رأسه. ود علاء لو يصدح بمعانات الطفل كما شاهدها ويعاينها يوميا. أو يصدح بالمرارة التي تذوقها بين جدران مدرسته. وتمنى من أعماقه لو يتلقى أجوبة سريعة ومبادرة فورية لإنقاذ الطفل... وحينما أعاد عليه الرئيس بصوت حاد:
ـ هيا يا علاء.. تفضل والق كلمتك
ابتسم له علاء ومسح جدران القاعة بنظرة استخفاف ثم حيا الرئيس وزملاءه وبعد تنهيدة حارة قال بامتعاض شديد:
ـ لقد مضى ما يربو على عقدين من الزمن على تأسيس هذا البرلمان، فماذا صنعتم لهذا الطفل الذي أوكل إليكم مهمة إيصال صوته إلى المسئولين لتحسين ظروفه؟ وما هي الإنجازات التي سجلتموها لصالحه؟ وماذا فعلتم بشأن الطفل الذي يتوسد الحجارة ليدافع بها عن نفسه أمام الرشاشات والقنابل والأعمال الإرهابية، التي زعزعت لديه الأمان والطمأنينة في رحم أمه؟...
قاطعه أحد النواب:
ـ نحن نمثل أبناء دوائرنا ولسنا مسئولين عن أطفال العالم
قهقه الآخرون وابتلع علاء ريقه قائلا وآثار الغضب بادية على وجهه:
ـ الطفل ما يزال حتى اليوم أكثر المخلوقات تعنيفا. في المدرسة، يشعر وكأنه ينفذ عقوبة الحبس. يكتوي بنار ضغوط البيت والمدرسة ونار الإلقاء به في الشارع. وإذا حالفه الحظ وتدرج في مستوياتها حتى النهاية المرسومة لفظته مهزوز الشخصية، لا رأي له ولا قدرة له على المناقشة، ولا إدراك له بما يجري حوله كأنه من عالم آخر لا يمت بصلة إلى عالمنا.
ـ أجل، قد تطرقنا ـ يا علاء ـ إلى هذه النقاط في الجلسات السابقة فماذا تقترح لهذه المعضلة؟؟
سرح علاء في البعيد دون أن ينبس بكلمة ثم ألقى عليهم تحية الوداع واندفع خارجا بعدما بدا له البرلمان مكانا لاجترار الكلام...
اعتكف في غرفته يناشد، عبر الأنترنيت، المنظمات الدولية المتخصصة، والجهات المسئولة على حماية الطفولة لإنقاذ الطفل والرفع من مستواه الاجتماعي. إلا أن الإنجازات التي حققها كانت دون المستوى الذي يأمل في تحقيقه لطفل اليوم. لم يتوصل علاء من مساعيه الحثيثة إلا ببعض مساعدات مادية زهيدة وبعض كراسي متحركة للمعوقين، ووعود بإجراء عمليات مجانية لضعيفي البصر ومرضى القلب، وفتح شبه مدارس في المناطق النائية، وكذلك مضادات حيوية مجانية مع لقاحات وأمصال ضد مختلف الأمراض..
فخلع عليه هندام البرلماني وانزوى في غرفته حزينا متألما ينتظر حمدون العجيب ليلبي طلباته وما ينشده لطفل اليوم..
علاء يكشف عن سر فشله المدرسي
لم ينس علاء يوما مأساته بين جدران قسمه. وكيف ألقى به معلمه في آخر الفصل. فهو لم يكن غبيا ولا كسولا. كان طفلا عاديا في البداية ومن المتفوقين في قسمه. إلا أنه يوما مرض فغاب عن المدرسة عشرين يوما. وحينما التمس في نفسه القدرة على القيام، حمل محفظته وأدويته وذهب إلى مدرسته فرحا باستئناف دراسته وبملاقاة أصدقائه. جلس على مقعده الذي يحمل صورته في أول الصفوف. سعد كثيرا بالجو في الفصل الذي افتقده طيلة أيام مرضه فنسي أنينه وسقمه إلى حين.
إلا أن علاء لم يعد نشيطا في القسم. طيلة الوقت يستمع إلى شرح معلمه ولا يجد نفسه قادرا على المشاركة كما كان وكما يرى بقية زملائه في المقاعد الأولى يفعلون. وجد نفسه غريبا في قسمه. تائه بين كثرة المواد وجديد الدروس. مهما أجهد نفسه في التركيز، لم يستطع علاء متابعة وفهم ما استجد منها. فسقط يوما رأسه فوق مقعده من شدة الإجهاد والفتور الذي استشعره من آثار المرض الذي لم يشف منه نهائيا. فقرصه معلمه من خده وصرخ علاء من شدة الفزع فانفجر الآخرون ضحكا.
انكمش علاء على نفسه خجولا مما صدر منه. فأضحى رغم كل العناء الذي يستشعره علاء، يحرص كثيرا ألا يقتنصه النوم مرة أخرى فيقرصه معلمه ويضحك عليه التلاميذ. يجهد نفسه كثيرا ليظل يقظا. ويجهد نفسه أكثر في التركيز فيما يمليه معلمه من دروس على التلاميذ عله يستشف الطريق إلى فهمها ويستعيد مشاركته في القسم كما كان. لكن دون جدوى. فقط، يجد نفسه شاردا يسبح في فراغ رهيب. لا يفكر في شيء. فقط فراغ رهيب يلف ذاكرته. ذلك الفراغ الذي استحبه مع الأيام بدل التركيز في شيء لا يعرف أوله من آخره. ليفاجأ بمعلمه يلقي به في آخر مقعد في القسم صارخا في وجهه:
ـ أنت كسول مكانك هناك
فوجد مع الأيام راحة مطلقة في عقوبة معلمه بإلقائه في نهاية الفصل ومنع بقية التلاميذ من توجيه الأسئلة إليه أو محادثته. في آخر الفصل، لم يعد أحد يكسر على علاء شروده وغيابه المستمرين. لقد أنقذه معلمه بهذه العقوبة من الجهد الذي كان يبذله ليستوعب ما يريد أن يسطره في رؤوس تلاميذه بالضرب أحيانا والصراخ أحيانا أخرى. فاستعذب علاء هذه العقوبة. طيلة الحصة يظل غائبا عما يجري في الفصل. لا يحضر في قسمه إلا بجسده. أما عقله فيسبح على الدوام في فراغ سحيق. لا يتخلص من هذا الفراغ إلا حينما يصل إلى البيت ويغوص في الألعاب الالكترونية.
كم كان علاء يتمنى لو تحل الألعاب الإلكترونية محل الدروس !!.
0 التعليقات:
إرسال تعليق