إلى أي مدى يمكن إيجاد قناعة عامة بضرورة إكساب المعارف للأطفال انطلاقًا من اعتقاد بوجود عبقرية كامنة في استعدادهم الفطري للتعلم، وبطريقة يمكن بها تعميم تلك القناعة عبر ممارسة معينة في التربية التعليمية للطفل؟ تذهب الكاتبة الهندية (شاكونتا لا ديفي) في كتابها «أيقظي العبقرية الكامنة في طفلك» إلى طرح أفكار مثيرة بخصوص إمكانية ذلك.
فما ينطوي عليه هذا الكتاب ضمن صفحاته الـ 167 هو الاستمرار في تجديد الثقة حيال إدراك الطفل واعتبار قابيلة ذلك الإدراك لمعرفة الكلمات والأفكار أكبر بكثير مما يتصور الوالدان، خصوصًا الأم. ومن هنا يأتي رهان الكاتبة في أطروحتها هذه على أن الأمر لا تكمن أهميته في استعدادات الطفل بقدر ما تكمن في هذه العبارة التي توصي بها الكاتبة كل أم لتضعها أمام هذا التساؤل «أريد الأفضل لطفلي، إذن يتوجب علي أن أعطيه أفضل ماعندي». ثم تضيف المؤلفة نصيحتها للأم: «احتفظي بهذا المبدأ الأساسي في نفسك وفي قلبك، ردديه في كل فرصة ممكنة، طبقيه في حياتك، استعمليه لتهيئي جوًا منشطًا يساعدك على مضاعفة ثقتك في طفلك. بهذه القاعدة الصحية لن تفشلي أبدا في تغذية ذكائه وتفجير عبقريته». وبعد استعراض لتعريفات العبقرية في بعض المعاجم الحديثة مثل معجم (لا روس) الفرنسي الذي يعرف العبقرية بأنها «كفاءة طبيعية لشيء ما، قدرة مبدعة بشكل عام، طبع خاص متميز لشخص ما»تبدأ الكاتبة في تحليل هذا التعريف برده إلى عناصر أولية يمتلكها كل طفل حين يولد، ولكن البيئة التي تحيط به هي التي تؤدي إلى ضمور تلك الملكات المتصلة بفكرة العبقرية. والمشكلة أن الآباء منذ البداية لا يدركون أن عبقرية ما تسكن أبناءهم «فمن الواضح إذن أننا نملك جميعا قابلية للعبقرية، وإذا لم نتصرف جميعًا على هذا الأساس فذلك لأن معظمنا لم يمتلك الحظ لرؤية هذه الطاقة المطلوبة مغذاة ومنشطة حين كانت أكثر طواعية من أي وقت آخر».
وبالرغم من أن أسلوب الخطاب في النسخة المترجمة يتوجه إلى الأم على شكل ضمير المخاطبة - بحسب اختيار المترجمة له - إلا أن المنهج الذي سلكته المؤلفة اعتمد على طريقة مزجت فيها الذاتي والموضوعي، فهي في الوقت الذي تستعرض فيه بعض الأفكار والنظريات حين الحديث عن طرق تعليم الطفل تستعين كذلك ببعض القصص التي سمعتها أو من تجاربها الخاصة أو من بعض مواقف الحياة التي تراها لتدعم وجهة نظرها، ولتؤكد في صورة ما أن كل طفل يستجيب لطريقة ما في التعليم. ولذلك توصي المؤلفة الأم بابتكار طريقتها الخاصة في تعليم طفلها إلى جانب استخدامها لطرق التعليم المختلفة.
تعتمد الكاتبة على ثلاثة أسس تقوم عليها عملية الإيقاظ والاكتشاف لعبقرية الطفل، وهي تأتي أيضًا في شكل وصايا بأسلوب الخطاب. فتقدم هذه الأسس الثلاثة على هذا النحو موجهة حديثها للأم:
1- القناعة بقدرتك على إيقاظ العبقرية في طفلك.
2 - القناعة بقدرته على أن يصبح عبقريًا.
3 - عدم التصريح بأن طفلك قليل الذكاء أو التفكير بذلك.
أما الرابط الذي يجمع بين هذه الأسس في عملية التعليم فهي زراعة الثقة في نفس الطفل عبر ثقة الأم في نفسها. ومن خلال هذه الثقة تخلص المؤلفة إلى أن الكثير من الواجبات التي نقوم بها في العديد من مجالات الحياة بقناعة ما على أنها من أشكال الإكراه أو الواجب، يمكنها أن تتحول إلى أفعال نقوم بها بمتعة كبيرة وإحساس بالراحة والرغبة الذاتية في مزاولتها. وكل ذلك يرجع إلى أن طبيعة التعليم الذي يقوم على الثقة في نفس الطفل، يختلف تمامًا عن ذلك التعليم الذي لا تصاحبه الثقة أثناء التعلم. وتتخذ الثقة أشكالا مختلفة في تعليم الطفل تختصرها المؤلفة في مثل هذه العبارات «هيئي ظروفًا مناسبة» ولتقريب هذه الفكرة تقول المؤلفة موجهة حديثها للأم «فكري في زهرة الخزامى، لماذا تنمو بشكل رائع على أرض هولندا؟... لأن التربة ودرجة الحرارة وكمية الرطوبة والبيئة كلها ممتازة، إنها تزهر بفضل الظروف المناسبة، بنفس الطريقة سوف تتفتح عبقرية طفلك بفضل المحيط الخصب الذي يمكنك تهيئته».
تعتني المؤلفة في دقة متناهية بالكثير من القدرات الكامنة للطفل، وتضع نسبة النجاح في مشروع إيقاظ العبقرية كلها إلى سلوك الأم ومنهجها وقدراتها وصبرها وإبداعها الخاص لطرائق التعليم من وحي معرفتها بطفلها. ذلك أن للكاتبة (شاكونتا لا ديفي) نظرة علمية مؤمنة إلى العقل البشري باعتباره نعمة إلهية لا يمكن مقارنتها بأي آلة حديثة. وتشرح الكاتبة بعض قدرات العقل البشري وطريقته المعجزة في الفهم والتعلم لتؤكد أن تعلم الطفل أقصى كمية من المعرفة أمر ممكن إذا استخدمنا الوسائل المثالية المناسبة لمتابعة قدراته واكتشاف عبقريته الكامنة.
إن الطرائق الملائمة واللامتناهية في إكساب الطفل للمعرفة عبر يوميات الحياة العادية هي أكثر بكثير مما نظن، ولها تأثير إيجابي يحقق نتائج أكثر مما نتخيل بكثير. وهي طرائق - بحسب المؤلفة - تحتاج إلى حس مرهف وذكاء ودقة ورصد من قبل الأم تجاه حركات طفلها التي تلاحظها كل يوم. ذلك أن فلسفة المؤلفة في جدوى ذلك التعلم تنطلق من قناعة عميقة بأن نشأة الطفل وبدايات حياته هي عملية متواصلة من الاكتشافات وحب المعرفة والاستمتاع بذلك، والانتباه إلى كل جديد في كل يوم يمر به من مراحل نموه، فالحياة تبدو له كل يوم مغامرة سحرية، ومن ثم انتهاز تلك الفرص للإجابة عن أسئلته وملاحظة طريقته في التعبير واختيار الموقف المناسب لتنبيه حواسه واختيار القصص له عبر تجاربه وألعابه المختلفة. وهي كلها ملاحظات صغيرة وذكية لكنها عظيمة الأثر وبالغة العمق في إكساب المعارف للطفل بطريقة تلقائية سلسة.
تقول المؤلفة بعد أن تعدد الوسائل المختلفة لتعليم الطفل مثل القراءة بصوت مرتفع، أو الرسوم والصور التي تقدم له مع الكلمات أو الأناشيد ذات القافية والإيقاع، وهذه تساعده كثيرًا بفضل الإيقاع الموسيقي المريح لأذنه؛ بعد كل ذلك تنبه المؤلفة إلى السياق التربوي قائلة «لو أن طفلك انتهى لتوه من اللعب مع قطة الجيران، ثم رأى صورة قطة، أو سمعك تروين قصة عن قط كبير فإنه سيعبر فورًا عن سروره. إن تجربته الشخصية تقدم إلى تلك القصة مزيدًا من المميزات، أكثر مما لوكان بطلها خلد الماء مثلاً الذي ربما لم يسمع به الطفل قبل ذلك» وبناء على هذه التجربة تشرح المؤلفة معنى التجربة في السياق التربوي بقولها «إن الأشياء التي نعيشها تضيف مزيدًا من التشويق. ولهذا السبب فإن من المفيد إخراج الطفل منذ طفولته المبكرة إلى الحدائق العامة أو إلى حدائق الحيوانات والطيور أو إلى المصرف أو الحلاق أو السوق».
وتشير المؤلفة إلى العديد من المعالجات حيال تصرفات الطفل وأسئلته انطلاقًا من إدراكها أن الطفل منذ أن ينطق ويتعلم الكلام سيسأل عن أي شيء، وسيستخدم ردود فعله على بعض المواقف فتقول «منذ بدء الطفل بتعلم مفردات اللغة فإنه يستخدمها لطرح الأسئلة، ولا غرابة في ذلك فهذا يشكل جزءًا من تطوره الطبيعي، ويدل على تعطشه اللامتناهي للمعرفة. أجيبيه بطريقة واضحة وبعيدة عن التعقيد قدر الإمكان، أما إن كنت غير ملمة بالجواب فأقري بذلك بكل بساطة: أنا لا أعرف الإجابة عن سؤالك لكن يمكننا البحث في المعجم، ابحثي معه الجواب واقرئي له المعلومة التي حصلتِ عليها. شجعي فضوله واهتمي دائمًا بتساؤلاته فهذا يعود عليه بالفائدة» وضمن توظيف مشاهداتها وملاحظتها اليومية في الحياة لتأكيد علاقة التعليم بمعاني المفردات وتوجيه الطفل عبرها توجيها إيجابيًا، تحكي لنا المؤلفة هذه الحكاية التي شهدت أحداثها في أحد الشواطئ «لاحظت عائلة تجلس بالقرب مني، وكان أطفالها يصنعون قصرًا من الرمال، ثم وضعوا اللمسات النهائية بالتربيت على جدران الرمل، ثم تراجعوا بضع خطوات ليتأملوا نتيجة جهودهم... كانوا يتأملون تحفتهم بفخر عندما أقبل فجأة غلام ذو أربع سنوات ليحطم القصر الذي شادوه بمجرفته. بدأ باقي الأطفال في الحال باصدار صيحات الاعتراض وقال أحدهم : ساقضي عليك إن لم تتوقف في الحال. كان يمكن للوضع أن يتطور إلى مشاجرة عنيفة لولا تدخل الأم التي حولت مسار المناقشة إلى لعبة جديدة؛ لقد وجهت انتباهها إلى الطفل الذي كان يستعد لضرب الصغير مستخدما عبارة «سأقضي عليك» فقالت له هل تعرف أن كلمة «أقضي» التي استخدمتها تحوي عدة معان؟ ثم سألت الأطفال: من منكم يعطيني معاني أخرى لكلمة «قضى»؟ لاقت اللعبة نجاحًا كبيرًا فقد أعطى كل واحد منهم مفهومه الخاص للكلمة. التي من معانيها : قضى بمعنى حكم وفصل. وقضى بمعنى أمر. وقضى بمعنى صنع. وأخيرًا ختمت الأم حوارها قائلة: والآن يا أحبائي سأقضي بينكم بدلاً من أن يقضي الشجار على متعتكم. وهذا النوع من الألعاب يعتبر من أفضل الطرق لزيادة فهم الطفل لمفردات اللغة، مما يعتبر تمرينا ممتازا لإيقاظ العبقرية».
وهكذا تتوالى فصول الكتابة في تتبع كل الوسائل النفسية والتربوية وما يتصل بها من ملاحظات من أجل إيقاظ عبقرية الطفل العادي لدى كل أسرة،. وبالرغم من أن فصول الكتاب تحتوي على عناوين عديدة لطرق إيقاظ تلك العبقرية، وشرح القواعد المساعدة على ذلك إلا أن المؤلفة تذكر في أحد فصول الكتاب مفهوم (قوة الدافع) وعلاقته بتنمية تلك العبقرية في سنوات الطفل الأولى وتطوير دوافعه الطبيعية إلى أقصى الحدود. ومن خلال هذه النصائح التي تقدمها المؤلفة للأم يمكننا التعرف على طبيعة استثمار الدافع في نفس الطفل. تسوق المؤلفة هذه الملاحظات الموجهة إلى الأم:
1- وفري جوًا عائليًا صحيًا ومحمسًا.
2- أحرصي على أن يتبع عقلك وعقله دائمًا الأهداف الإيجابية.
3- عاشري أشخاصًا يوحون بالتفاؤل ويدفعون إلى العمل، ولا تتأثري بالأفكار السلبية وبمن يحاول إحباطك.
4 - لا تحاولي مطلقًا أن تسيطري على دماغ طفلك؛ على العكس من ذلك شجعيه دائمًا على الاستقلال.
5 - أدخلي طفلك إلى عالم الأشخاص المهمين من مخترعين ومكتشفين وعلماء وأبطال تاريخيين.
6 - دعي طفلك يتصرف بطريقته الخاصة سيتردد غالبًا وقد يخطئ، لكن هذه العقبات تشكل جزءًا من سلسلة التعلم. أحمي طفلك من توقع النجاح التام من أول محاولة».
يتميز أسلوب الكتابة لدى المؤلفة بالسلاسة والبديهة والبعد عن التعقيد بالإضافة إلى استخدام الأمثال والقصص والحكايات والتجارب الحياتية الصغيرة. وبالجملة فإن المؤلفة تريد أن تقول في هذا الكتاب إن هناك أكثر من طريق لإيقاظ العبقرية في الطفل العادي استنادًا إلى قدرات العقل البشري الطبيعي، إذا تهيأت له بيئة إيجابية ومكتملة وبذلت أم الطفل أفضل ماعندها من أجل إخراج أفضل ماعنده.
وبالرغم من أن فصول الكتاب تشرح العديد من الأسس والوسائل والأساليب المتصلة بطرائق مختلفة لتعليم الطفل وإيقاظ العبقرية في نفسه وهي قواعد ونقاط لا يتسع المجال لعرضها في هذه العجالة، إلا أن من أهم ملاحظات المؤلفة في هذا الكتاب هو أن الأشياء الصغيرة والعابرة في حياة الطفل منذ البداية تحتاج من الأم النبيهة إلى رصد وتوظيف وبذل كل طاقاتها للاستفادة منها في تجربة مفيدة لطفلها أي بمعنى أن حياة الطفل هي بمثابة كتاب مفتوح إذا أحسنا قراءته يمكننا فهمه وتوجيهه إلى أفضل الطرق للاستفادة من كل الطاقة الكامنة في نفسه للتعلم. تهتم المؤلفة بالاستفادة من النظريات العلمية في علم النفس والرياضيات ومناهج التربية الحديثة، لكنها تضخ تلك المعرفة ضمن نسيج خاص من أسلوبها السهل والمفيد والفعال. ولقد برعت المترجمة في إعادة إنتاج ذلك الأسلوب بلغة عربية سهلة وعميقة في نفس الوقت. الجدير بالذكر أن مؤلفة الكتاب (شاكونتا لاديفي) هي مختصة في الرياضيات ومن ضمن أشخاص موسوعة جينيس للأرقام القياسية في الرياضيات.
والسؤال الذي يطرح نفسه: إلى أي مدى يمكن للعبقرية أن تكون نتيجة للتعليم المثالي في حياة الطفل العادي؟ وهل هذه النتيجة هي في صورة ما تأويلاً لمقولة «تسعة أعشار العبقرية جد ومثابرة، والعشر الواحد ذكاء؟»
ربما كان كتاب «أيقظي العبقرية الكامنة في طفلك» هو أحد الأبحاث التربوية العميقة التي تؤكد على إعادة تعريف معنى العبقرية حين ترد حقيقتها إلى قدرات كامنة في نفس الطفل العادي والتي تحتاج فقط إلى فهم وإدراك إشاراتها المبثوثة في أقوال وتصرفات الطفل؛ ومن ثم إيقاظها في قدراته الكامنة من طرف الوالدين ولا سيما الأم عبر بذل أفضل ماعندها من معلومات ووسائل وأساليب وصبر وذكاء وثقة. ولعل أهم مايميز منهج المؤلفة أنه يستند إلى تجارب حقيقية آتت ثمارها في حياة الكثيرين من معارفها وفي أفراد عائلتها أيضًا لاسيما وأنها معلمة رياضيات موهوبة، الأمر الذي يمنح الكتاب مصداقية ليست فقط على المستوى النظري، وإنما على المستوى التطبيقي أيضًا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق